صدر حديثًا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب برئاسة الدكتور هيثم الحاج علي ، كتاب ” العيون وعلاجها عند قدماء المصريين نقلاً عن قراطيسهم ” والذي ترجمه عن اللغة المصرية القديمة المكتوبة بالخط الهيراطيقي أحمد بك كمال وقدم له الدراسة والتحقيق الباحث محمد سيد كمال .
والكتاب الصادر عن سلسلة “التراث الحضاري” يتحدث عن أمراض العيون التي نجح المصري القديم في معالجتها، وهذا النجاح جاء من نجاحه في معرفة هذه النوعية من الأمراض وكيفية تشخيصها، وقد اهتدي عالم المصريات الراحل “أحمد كمال بك” إلى برديات مخطوطة شرحت طب العيون وشخصت أمراضه، فجمعها في مخطوط وكان في نيته أن ينشره ولكنه توفي قبل تحقيق أمنيته، وقد ترجم الراحل ما في المخطوط من اللغة المصرية القديمة المكتوبة بالخط الهيراطيقي في سابقة هي الأولى من نوعها.
ويعرفنا تمهيد الكتاب أن الطبيب في مصر القديمة كان يسمى “سونو” ويسمى طبيب العيون “سونو إرتي” وقد استمرت هذه التسمية حتى النصوص القبطية، وقد ذكر “جون إ ف نَن” في كتابه “الطب المصري القديم” أن البرديات المصرية القديمة أظهرت لنا كيفية تعامل الأطباء في مصر الفرعونية مع مرضاهم بمنهجية وبخطواتٍ ثلاث:
أولاً: الاستماع بتركيز لشكوى المريض، وتسجيل الأعراض المرضية ثم الفحص باستخدام الأعين والأيدي. ثانيًا: من خلال الفحص ومعرفة التاريخ المرضي يصل الطبيب إلى التشخيص النهائي للحالة. ثالثًا: بعد التوصل إلى تصور عام عن الحالة والتشخيص النهائي، يبدأ المعالج في الخطوة الثالثة وهي وضع العلاج، والذي يعتمد أساسًا على خبرات سابقة في التعامل مع حالات مشابهة.
وهذا النظام الموثق والتعامل المنطقي مع المريض هو أسلوب التعامل نفسه مع الحالات المرضية في الزمن الحالي، وقد استمر اتباعه في سلسلة لم تنقطع عبر الزمن منذ أيام المصريين القدماء.
ويدلنا الكتاب على اعتناء المصري القديم بالطب، وهو الذي استنبط هذا العلم بعد تجارب دلته على معرفة الأمراض وخواص الأدوية وفعاليتها، ثم أصبح للطبيب قواعد محددة يتبعها في التشخيص الذي كان يقرنه ببعض العزائم السحرية ليزيل الأوهام عن مريضه كنوع من الإيحاء النفسي للتهدئة.
وقد لاحظ المؤرخ “هيرودوت” أن المصريين في زمنه كانوا من أكثر الشعوب صحة وأكثرهم اهتمامًا بها، وقد قسم المصريون القدامى الطب إلى اختصاصات عدة بحيث يختص كل طبيب بفرع واحد؛ ولهذا كثرت أصناف الأطباء ما بين طبيب للأسنان وآخر للأمراض الباطنية وثالث لطب العيون.
ويعتقد “ماسبيرو” أن الطبيب المصري القديم كان يعالج كافة الأمراض عدا “العيون” التي كان لها عندهم طبيب مختص بها، وعمومًا كان الأطباء في ذلك العصر على نوعين: موظفون بالدولة يتقاضون مرتباتهم من الحكومة وبعضهم أطباء عسكريين، وكانوا يعالجون العامة أيضًا ويتقاضون منهم أتعابًا غير ضئيلة وهدايا ثمينة.
ومن تقاليدهم أن الطبيب الحكومي كان يقتطع من أتعابه جزءًا للمعبد الذي تلقى فيه العلم. والنوع الثاني هم الأطباء الكهنة وكانوا على قدر كبير من العلم والدهاء والمعرفة بالكيمياء حتى ذكر البعض أن كلمة “الكيمياء” مشتقة من “كيميت” وهي الاسم القديم لمصر.
ورغم هذا التقدم المذهل لم يكمل المصريون مشوارهم العلاجي لاعتبارات دينية كانت تمنعهم من تشريح الجثث وبالتالي لم يعرفوا كل الأمراض مع أن التحنيط كان يمكنهم من فحص جوف الإنسان لكنهم اعتقدوا أن التشريح من أجل البحث العلمي خطيئة كبرى.
جدير بالذكر أن مترجم المخطوط وهو أحمد كمال بك يعد من أوائل الأثريين المصريين الذين عشقوا دراسة الحضارة المصرية القديمة، وعمل في هذا المجال 30 عامًا وقد خلف العديد من المؤلفات والبحوث عن المناطق الأثرية الهامة التي قام بحفرها، وهو الذي كافح من أجل كسر احتكار الأوروبيين لهذا المجال،
وقد ولد عام 1849 وتلقى تعليمه الذي تدرج فيه من الابتدائية إلى التجهيزية ثم انضم إلى مدرسة “بروكش” للآثار واللغة القديمة، وقبل التحاقه بمصلحة الآثار كان يعمل مدرسًا للغة الألمانية في المدارس الأميرية بالقاهرة الإسكندرية، كما عمل مترجمًا في نظارة المعارف، وذلك لأنه تخرج أيضًا من مدرسة “الألسن”.
ومن أهم كتبه “بغية الطالبين في علوم وعوائد وصنائع وأحوال قدماء المصريين” وكتاب “العقد الثمين في محاسن وأخبار وبدائع آثار الأقدمين من المصريين” وهو أقدم كتاب عربي عن تاريخ مصر القديمة، وقد ألف “أحمد بك كمال” كتبه بدوافع وطنية ليستنير الشعب من تاريخه المجيد ويعرف أفضال بلاده على الدنيا وأهلها.