أخبار عاجلة

زين العابدين خيري يكتب: المؤسسات الثقافية غير الرسمية.. روافد تاريخية فى وريد الوعى

دور كبير ونبيل جدا يقوم به كثير من المنظمات والمؤسسات الثقافية والفنية غير الحكومية فى مصر فى سبيل تقديم خدمة ثقافية وفنية وأحيانا تعليمية يحتاجها بشدة المواطن المصرى حاليا، وذلك على العكس مما يعتقده بعض الهيستيريين من أن أي خدمة ثقافية وفنية تُقدّم لهذا المواطن إنما هى رفاهية غير ضرورية، وأن على منظمات المجتمع المدنى تركيز جهودها فى دعم هذا المواطن ماديًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا، جنبا إلى جنب مع المبادرات الحكومية المهمة فى هذا الشأن كمبادرة «حياة كريمة» و«تكافل وكرامة» و«أطفال بلا مأوى» و«سكن كريم» و«مصر بلا غارمين» وغيرها.
ولكن الحقيقة أن احتياج الإنسان –عموما والمصرى خصوصا- للخدمة الثقافية والفنية، وفى هذا الوقت تحديدا وفى ظل هذه الظروف الصعبة اجتماعيًّا واقتصاديًّا، لا يقل فى أهميته –إن لم يزد فى كثير من الأحيان- عن خدمات التضامن الاجتماعى والاقتصادى المختلفة، إن لم يكن على مستوى زيادة الوعى والارتقاء بالذوق العام وغيرها من الأهداف الإنشائية المعروفة، فليكن على مستوى بناء وتنمية الشخصية الفردية باعتبارها العنصر الأهم فى المشروع التنموى العملاق الذى تتبناه الدولة حاليًّا، وجدلا إن لم يكن لهذه الخدمات الثقافية والفنية من دور إلا الترفيه والترويح عن نفس الإنسان لبعض الوقت فما أعظمه من دور.
ولكن الواقع يقول إنه وبينما تستمر الدولة المصرية فى حربها التى تخوضها ضد الإرهاب منذ سنوات على كل المستويات وبكل الوسائل، فإنها وإيمانا منها بأهمية البعد الثقافى والفنى والإعلامى فى هذه الحرب وتأثيره المباشر على وعى المواطن، قامت بإنتاج المسلسلات والأفلام والبرامج التى تدحض الأفكار الإرهابية والمتطرفة وتكشف عوراتها وتهافت منطقها، ولذا فإن أى جهد فى سبيل تقديم الخدمات الثقافية والفنية للمصريين سيجعلهم أكثر قوة وصلابة فى مواجهة هذه الأفكار، فالفكرة لا أقوى من مواجهتها إلا بفكرة مضادة، والفكر المتطرف لا سبيل له للعيش والانتشار إلا فى عقول مريضة قليلة الوعى والثقافة.

وهذا يجرنا إلى الحديث عن مفهوم الثقافة نفسها؛ فالسلوك الفردى والجماعى ثقافة، والعادات والتقاليد ثقافة، واحترام الاختلاف ثقافة، وقبول الآخر ثقافة. والتطرف بكل مستوياته سواء دينيًّا أو غيره ليس إلا رفضا لهذا الآخر، ونفيا له ولأفكاره، ولذا لن ينمو إلا فى مجتمع مريض ثقافيًّا.

وبنظرة سريعة إلى الماضى القديم والقريب سنجد أن مصر فى أقوى فترات توهجها الحضارى كان أبرز مظاهر هذا التوهج هو فنونها وثقافتها التى لم تكتف بالازدهار محليًّا بل كان يتم تصديرها إلى كل العالم المحيط بنا وقتها، فيما اصطلح على تسميته بقوة مصر الناعمة. وبالعكس فإن من أبرز مظاهر الانحدار فى فترات الانهيار والغزو والاحتلال كان تدهور الفنون والذوق العام فى المجتمع.
وهو ما أعتقد أن الدولة تدركه فى الوقت الحالى بمحاولة تدشين عشرات المشاريع الثقافية التى تهدف لوصول المنتج الثقافى إلى المواطن المصرى أيا كان موقعه ومكانه. وفى هذا الصدد كنا فى «القاهرة» قد سلطنا الضوء فى الأسابيع الماضية على أهم هذه المشروعات الثقافية الرسمية التى تعنى بتقديم الدعم الثقافى المجتمعى للأسر المصرية وخصوصا فى المناطق البعيدة، وذلك عن طريق تنظيم ندوات وملتقيات وصالونات ثقافية، جلسات شعر وأدب، أنشطة فنية، قوافل ثقافية، ورش حكى أطفال، عروض سينمائية للكبار والأطفال، ورش ومعارض فنون تشكيلية، وورش تدريب على الحرف اليدوية والتراثية، وغيرها من الأنشطة. ومن أهم هذه المشاريع والمبادرات الثقافية التى تحدثنا عنها: مشاريع «محو الأمية»، «أهل مصر»، «حياة كريمة»، «ثقافتك كتابك»، «صنايعية مصر»، «الوديان الثقافية»، فصول تعليم ذوى الهمم وغيرها من المشاريع المهمة.

وهذه المشاريع تأتى بالطبع بجانب الأنشطة الأصلية التى تقوم بها الجهات الرسمية الدائمة المنوط بها تقديم الخدمات الثقافية والفنية، وأغلبها تابع لوزارة الثقافة، كالهيئة العامة لقصور الثقافة عن طريق قصورها وبيوتها ودورها المنتشرة فى كل ربوع مصر، وعن طريق دار الأوبرا المصرية، والهيئة المصرية العامة للكتاب التى باتت تنظم معارض للكتاب على طول مصر وعرضها. ولكن هل تكفى مثل هذه الهيئات الرسمية وحدها؟ وهل تغطى كل احتياجات المواطن المصرى لهذا الزاد الوجدانى؟ وهل تصل بالفعل إلى الجميع وخصوصا فى المناطق الشعبية والعشوائية والنائية؟

فى الحقيقة هنا يأتى دور مؤسسات المجتمع المدنى الثقافية والفنية التى نفرد لها الصفحات التالية تحية لها وتثمينا لدورها المهم الذى تقوم به، وبعضها يعمل فى هذا المجال منذ عشرات السنين دون ملل أو كلل، ودون انتظار لأى ربح مادى – باستثناء القليل منها-، بل وحتى دون انتظار لأى دعم رسمى باستثناء منحها التصاريح اللازمة لأداء عملها، الذى أرى أنه ليس فقط عملا خدميا ثقافيًّا أو فنيًّا أو تعليميًّا، بل هو دور وطنى حقيقى طالما بقى الوطن نصب أعين القائمين على هذه الأنشطة ونصب أعين الدولة القوية التى تعلم أن قوتها الناعمة الحقيقية بل وقوتها نفسها جزء أصيل منها قوة منظمات المجتمع المدنى التى تعمل بها والتى تلعب دورًا تكميليًّا مهما لدورها فى كل المجالات، وفى القلب منها الثقافة والفن.

*المقال منشور بجريدة القاهرة