فى رحاب العرس السنوىّ للكتاب الذى تشهده القاهرة، وبالذات بعد اختيار صلاح چاهين شخصية معرض هذا العام، خطر لى أن أكتب شيئاً عن علاقة والدى بالقراءة؛ وهى علاقة بدأت مبكرا جدا فى حياته، قبل بلوغه سن المدرسة، قبل أن يتعلم أصلاً فك شفرة الحروف ورموز الأبجدية. ربما بدأت تلك العلاقة وهو ما زال لم يُفطم بعد من صدر أمه؛ بل ربما بدأت قبل ذلك وهو بعد فى بطنها جنينا يتشّكل، فلقد ورث جينات أم قارئة بالفطرة من أوليات المثقفات المصريات، فى صباها كانت من زائرات دار الكتب المنتظمات، وظل الكتاب بجانب وسادتها لا يفارقها إلا عند النوم، حتى بعد أن تخطت الثمانين؛ ولم يفطمها منه إلا مرض الموت الذى أفقدها قدرة نصف جسدها على الحركة وحرمها من نصف وعيها. تلك السيدة، حين كانت أما شابة، كانت ترضع مولودها الأول محمد صلاح الدين، إلى جانب لبن النماء، غذاء العقل والروح فى صورة حكايات من الأدب المكتوب الذى تعلمته فى مدرسة السنية للبنات فى الربع الأول من القرن العشرين، حين كان التعليم بالإنجليزية والعربية معا، فأضافت لعين طفلها المندهشة وأذنه المنتبهة العاشقة، إلى جانب ما فعله الشاطر حسن ليأتى لست الحسن بماء المحاياة، ما قرأته هى من حواديت المدرسة عن روبن هود وويليام تل وحكاية الملك آرثر مع فرسان المائدة المستديرة.
وهكذا نشأ صلاح منذ طفولته المبكرة وقد امتزج فى غذائه الروحى تراث مصر الشعبى مع الثقافة الغربية المنقولة عبر القراءة. ويقال إن جدتى أمينة بدأت تعلم صلاحها القراءة منذ أن بلغ الثانية من عمره. وحين دخل الطفل محمد صلاح الدين حلمى مدرسة طفولته فى أسيوط، أعاد منذ أول لحظة سيرة أمه عاشقة القراءة، فكان يذهب مباشرة بعد انتهاء الدروس إلى مكتبة المدرسة ويظل هناك يقرأ حتى يحين موعد إغلاقها أو موعد استعداده لطقوس النوم أيهما أسبق.
وكان الأدب بالطبع، عربيا أو مترجما أو بلغته الأصلية أحيانا، صاحب نصيب الأسد من قراءات صلاح چاهين، قصصا وروايات ومسرحيات وقصائد.
وكان لافتتان صلاح چاهين بعمنا بيرم – الذى لم تكن أعماله قد صدرت فى كتاب حتى سبعينيات القرن الماضى، بل قرأه مبعثرا فى صفحات جرائد ومجلات عقد الأربعينيات – أقول كان افتتانه بأشعار وأزجال ذلك المعلم العظيم هو فى اعتقادى العنصر الحاسم لاختياره فى الخمسينيات العامية المصرية لغة لشعره. وشجعه على ذلك اكتشافه لفؤد حداد، الذى كان فى نفس التوقيت تقريبا قد اتخذ نفس القرار واستقر على نفس الاختيار.
وبعد صدور الديوان الأول لصلاح چاهين عام١٩٥٥ بعنوان «كلمة سلام» وتحت العنوان، على غلاف الكتاب، عبارة «قصائد شعبية»، كان صدور كتاب «الأدب الشعبى» لأحمد رشدى صالح، بعد ذلك بقليل، حدثاً استثنائيا فى تاريخ صلاح چاهين قارئا وشاعرا. فالمختارات الفلكلورية التى ضمها الكتاب – فى قسمه التوثيقى بالذات – حوت العشرات من المواويل وأغانى العرس والميلاد والتهنين وبكائيات العديد الشعبى التى خلبت لب القارئ صلاح چاهين، وأمدت شعره التالى، خاصة ديوانيه الثانى والثالث «موال عشان القنال» (١٩٥٧) و»عن القمر والطين» (١٩٦١) بنبع إلهام لا ينضب. ويعتقد صلاح چاهين أن هذا الكتاب كان علامة فارقة فى حياته قارئا وكاتبا معا. وظل الأدب الشعبى رافدا مهما فى ثقافة صلاح چاهين وعقيدته الفنية حتى آخر يوم فى حياته.
وليس أدب الشعب فقط؛ بل كل ما يرتبط بمصر تاريخا وتراثا وحاضرا ومستقبلاً كان يهم صلاح چاهين ويشوقه ويثير فضوله كقارئ، سواء تاريخ مصر القديمة أو مصر فى العصر الوسيط وما بعده، خاصة تاريخ الجبرتى، وبالذات جزءه الرابع الذى يؤرخ ويوثق يوميات ووقائع الحملة الفرنسية على مصر. وإلى جانب «عجائب الآثار» وكتب الرافعى، كان كتاب «سندباد مصرى» للدكتور حسين فوزى له موقع قريب جدا من قلب أبى، وكان يبشر به ويدعو الأجيال الجديدة فى العائلة وبين الأصدقاء لقراءته.
وكان صلاح قارئا نهما للمسرح، لكنه كان يتهيب كتابته. وكان ذوقه كقارئ للمسرح مرتبطا بعقيدته الشعرية، ويرى أن المسرح الجيد – كالشعر – عدوه الأول الثرثرة، ويجب ألا يحوى العمل المسرحى كلمة زائدة مثله مثل القصيدة. ولذلك كان كُتابه المفضلون فى المسرح هم فى الأصل شعراء (شيكسبير وبريخت) أو يتمتعون بفضيلة التكثيف فى حوارهم المسرحى، كالأمريكى تينيسى ويليامز الذى كان يحبه أبى كثيرا.
وبعد، هذه لمحة من سيرة صلاح جاهين مع القراءة، تحوى ما عنّ لى الآن وأتيح لى تذكره، ولا أدّعى أنها كلمة شافية وافية فى هذا الموضوع. وقد أضيف لها الآن أن صلاح چاهين كان يحب كثيراً أبناء جيله من شعراء الفصحى المصريين، وقد ورثت عنه هذا الحب. وكان يعشق شعر وشخص فؤاد حداد زميله ورفيقه فى ارتياد آفاق العامية المصرية وترسيخ مدرستها الشعرية التى أنجبت ما أنجبت من زخم ومواهب متألقة.
*منشور بجريدة القاهرة