اليوم نعيش أجواء الزمن الجميل على الرغم من الحروب والنزوح والفقد. تأخذنا هدى العجيمي إلى أجوائها الجميلة وإلى ذكرياتها العزيزة وإلى أسرتها وعائلتها الكبيرة فى مدينة جميلة رغم معاناتها وذكرياتها الأليمة مع الحروب. سنعيش أجواء مدينة بورسعيد من ثلاثينيات القرن الماضى إلى اليوم فى سرد جميل وحكايات القلب للقلب، فى “سنوات الحرب والحظ”.
هذا ثالث كتاب للإعلامية القديرة هدى العجيمي،
الكتاب الأول كان بعنوان “رؤى نقدية” عن برنامجها الشهير مع الأدباء الشبان ، أما الثاني فكان بعنوان “الإذاعة قصة عشق” حكت لنا فيه تجربتها الإذاعية الرائدة وتركت لنا إنطباعا جيدا عنها وعن كل من أحاط بها؛ فقد كانت إذاعية بارعة من الطراز الأول دؤوبة فى عملها وتجمعهاعلاقة ود ومحبة بكل من حولها. واليوم نعيش مع كتابها الجديد الذى خصصته لقصة حياتها تحكي فيه عن نفسها وأسرتها فى بورسعيد وكيف أرتبطت هذه الأسرة بتاريخ المدينة الباسلة، هدى العجيمي لم تتعمد الحديث عن السياسة لكن السياسة والحرب والتهجير هم محور أساسي فى حياه أسرتها ومدينة بورسعيد. يلفت انتباهى فى سردها أنها تأثرت كثيرا بشغف والدها بمجلة الإذاعة وكم كان مهتما بجمعها فى مجلدات و تلك كانت نواه شغف هدى العجيمي بالقراءة وارتباطها مستقبلا بالاذاعة.
أسرة عريقة من الزمن الجميل “سي حسن”- كما اعتادت امها ان تناديه -أب عطوف كريم و”ست فاطمة” أم واعية لها الدور الأكبر فى العبور بهذه الأسرة الى شاطئ الأمان. كيف كان للست فاطمة أن تكون بكل هذه الحكمة والوعى والرقة والجرأه كيف استطاعت أن تتخذ قرار النزوح من بورسعيد زمن العدوان الثلاثى ١٩٥٦ وحدها مع أطفالها الصغار وكيف عاودت الكرة سنة النكسة ١٩٦٧؟ وكيف تحملت تغير الحال فى سنوات حرب الاستنزاف؟
لو كان لى أن اضع عنوانا لهذه القصة لأسميتها ” الست فاطمة”، وهدى العجيمي هى الأبنة الكبرى للست فاطمة التى كانت تحب أن تناديها: ياهداااى فقدآمنت بموهبة ابنتها الكبرى ودفعتها الى التعليم فى زمن كان من النادر أن تكمل المرأة تعليمها حيث كان الزواج المبكر مصير كل فتاة.
كانت الست فاطمة واعية وذات بصيرة تسبق بها عصرها هى مدبرة راضية دائما و أبدا، تدير دفة البيت بحكمة، وفرت لهدى العجيمي جوا مريحا ليس للتعلم فقط بل للثقافة والقراءة وحرية مراسلة الصحف وممارسة الشعر فى صغرها . نجحت الست فاطمة أن تصل بأسرتها الي العلم والمعرفة فكانت كبرى بناتها رائدة من رواد الإذاعة المصرية وإخوانها الذكور بين ضابط ومترجم وعندما تعثرت أختها الصغرى فادية فى التعليم لم تستلم الست فاطمة ولم تيأس الي أن أوصلتها للتعليم المتوسط الذى قادها الى هيئة قناه السويس فى وظيفة كانت تحسد عليها. هذه الإرادة الفولاذية للست فاطمة جعلت فقدها صدمة مريعة لأبنائها وبناتها.
سنوات الحرب والحظ هى سيرة ذاتية وقصة حياه كتبت بأسلوب الأستاذة هدى العجيمي وهو أسلوب السهل الممتنع ما أن تشرع فى القراءة حتي يأثرك سردها ولاتترك الكتاب إلا وقد انتهيت منه. عشنا معها فى لحظات الخوف والفزع ولحظات الترقب والقلق ولحظات الأمان والرضا عشنا معها حزنها وفقدها الأول لزميلتها فى الفصل وفرحها بجائزة أحسن تغطية إعلامية لمؤتمر المرأة العالمي فى بكين عام ١٩٩٥ وشهادات التقدير التى نالتها عن استحقاق.
والرواية تشي بانبهار الكاتبة بشخصية والدتها حيث أن هدى العجيمي عندما تتحدث عن نفسها تقول الابنة الكبرى للست فاطمة لأن الست فاطمة هى الشخصية المحورية فى الرواية وحياه أبنائها. فى نهاية القصة سمحت بمونولوج منفرد لأخيها عبد المنعم ليصف حاله فى آخر يوم من حياه الست فاطمة كما سمحت بمونولوج آخر مطول لفادية
“حبيبة أمها” لتصف شعورها وتبرر موقفها بعد وفاه من دافعت عنها طوال حياتها وألزمتها التعليم ليكون لها عونا فى حياتها.
سنوات الحرب والحظ فيها السرد تلقائي عفوى يخرج من القلب فتفتح له قلوب القراء ووجدنا أنفسنا نشبه هذه الأسرة المصرية الأصيلة. سنوات الحرب لأن الأسرة عانت من حربين وبعدهما حرب إستنزاف حتى نصر أكتوبر ٧٣ والحظ فى العنوان يحكى كيف أن هذه الأسرة حالفها الحظ فى هذه الظروف القاسية وخرجت بلا فقد مترابطة محبة لبعضها وملتفة حول الست فاطمة. و كان السرد هو الشغل الشاغل للابنة الكبرى وتسجيل مواقف الست فاطمة وأثرها فى حياه أبنائها فرأت ان الحديث عن المشاعر يتطلب وقفة أخرى، على وعد منها حيث قالت:” وقد يكون لنا موعد آخر ووقفة للبوح بكل هذه المشاعر” فى انتظار تحقيق هذا الوعد فى كتاب جديد.
*الكاتبة ناقدة وأديبة مصرية