هذا الفتى هو شريف قنديل، أو الصحفى الحزين، كما اعتاد أن يسمي نفسه فى مقالاته الأولى. والحقيقة أنى أعرف شريف قنديل منذ زمن بعيد يزيد عن الثلاثين عاما. فى تلك الفترة كان كثير الترحال لأنه الصحفى الدؤوب، فكثيرا ما كانت جريدة “المسلمون” تبتعثه إلى أماكن الصراعات فى العالم؛ أذكر جيدا كم عانى فى هذه السفريات وعانت معه أسرته من قلق وخوف لأنه دائما ما يتتبع الحروب فى إريتريا والصومال والسودان والسنغال وفى أفغانستان.
وتتويجا لتلك الفترة فقد فاز بجائزة على وهشام حافظ للصحافة مناصفة مع الأدبية أحلام مستغانمي. كان محملا بقضايا الأمة مهموما بها، لكن لا مانع من إحضار الزي الشعبي لكل بلد كتذكار لاندماجه مع همومهم.
كانت زوجته إيمان غريب تتنفس الصعداء عند عودته من مواطن الصراع فكل سفر بالنسبة لها هم وقلق عليه، شاركته إيمان الهم والقلق وفرغته للعمل الجاد وتحملت هى أعباء المنزل فى غيابه الفعلى وعند حضوره في انشغاله بالتقارير التي عليه أن ينشرها فى الجريدة. كانت كل سفرية من سفريات شريف قنديل تحمل قلقا للعائلة كلها.
مضت تلك الفترة وكنا نلح عليه أن يجمع كل هذه الخبرات فى كتاب وهى لازالت طازجة ساخنة، لكنه ظل يؤجل الفكرة لمدة طويلة ليقرأها عل مهل ويحللها ويعرضها على التأمل والفلسفة حتى خرجت ناضجة. فى مرحلة ما بعد ذلك أصابه ما يشبه الاكتئاب، أو ربما اليأس، ولم لا؛ وهو الصحفى الحزين الذى ذاق عن قرب ويلات الحروب والصراعات التى كان المسلمون حتما أحد أطرافها أو مفعولا بهم حول العالم وكأن كل الأمم تداعت علينا.
ظل شريف قنديل على هذا الحال لا نعرف ما يدور بداخله على وجه الدقة، أهو يأس أم تأمل؟ لا ندري كان هناك شئ يشغله على مدار الوقت حتى خرج إلى النور كتابه الأول “على كراسي الطغاة”، وجد نفسه وعرف طريقه، إنه البوح والكتابة، سعدنا بتتويج نجاحه بباكورة إنتاجه ثم وجدت تحولا كبيرا فى توجه “شريف”، فلم يعد الصحفى الحزين، بل استعاذ بالماضى من الحاضر واستعاذ بالقرية من قبح المدينة وصحبة الطفولة والصبا من الغربة والغرباء.
هو انحياز للأمل والجمال، مع سبق الإصرار يلتقط مواطن النور من القرية ويتجاهل عمدا الظلمة، يتشبث بحلاوة بالماضى لينفى مرارة الحاضر. أصبح يعيش حالة من النوستالجيا، أو الحنين إلى الماضى والقرية والنور، فهل هو لا يعى ما فى الحاضر من آلام؟ لا أظن ذلك فتجربته الصحفية لم تكن عادية يرتاد فيها المكاتب كل صباح، فقد عاش فيها كثيرا على خط النار هو تشبع حزنا وانحاز إلى الزمن الجميل ليبث فينا الأمل والرغبة فى مواصلة الحياة برغم الظروف.
فى كتابه الذى بين أيادينا “حكاية فتى فى حدائق الخروف” الصادر عن دار سما للنشر والمشارك في معرض القاهرة الدولي للكتاب 54 ، يستحضر لنا الشعر والشعراء الذين يحبهم وهو ليس منهم، على الرغم من أنه يحمل بين أضلعه قلب شاعر وعينه عين شاعر تلتقط كل جميل، فقد عانده الشعر.
وفى الكتاب استحضر الفلسفة ففى ظنى أن الفلسفة أعانته على تبني نظريته حول الجمال والكمال وتجاهل النقص، هذه النظرة أو النظرية الفلسفية ممزوجة بحكايات الماضى البسيط والفرحة التلقائية بالأشياء البسيطة والاندماج مع نموذج القرية بتفاصيلها غير المعقدة.
وعلى الرغم من أنه زار معظم عواصم العالم لكنه ينحاز دائما إلى مسقط رأسه هو مؤتلف مع طفولته السعيدة فكل ما فيها جميل. وعلى الرغم من أني سعيدة بهذا التحول فى شخصيته إلا أنني أخشى عليه انتكاسة عندما يكثر الخبث وتضعف قدرته على إنكاره أو تجاهله.
ففى هذا الكتاب يطالب متهكما بإنشاء قسم الأراجوزات فى كلية الإعلام ويخشى على الأجيال القادمة فقد الخيال، يقول: “أخشى على الجيل الطالع من انعدام خيال التفاؤل وأحلام اليقظة وإمكانية تحقق الأماني الجميلة فى الخيال المضئ”. هذا حديث رجل واع بما يقدم، هو يبث النور ويتجاهل الظلمة، أتمنى أن تدوم تلك الحالة وأن ينتصر الأمل على اليأس والنور على الظلمة والألفة على الاغتراب.
*الكاتبة ناقدة وأديبة مصرية