برعاية وزيرة الثقافة دكتور نيفين الكيلانى، افتتح الدكتور وليد قانوش المعرض الاستيعادى للفنان الكبير دكتور أحمد نوار بقصر الأميرة عائشة بالزمالك «مجمع الفنون»، بمشاركة الأصدقاء والمعجبين والطلبة والفنانين التشكيليين، فالفنان نوار رغم تركه المنصب الإدارى إلا أن المنصب الإنسانى لم يتركه أو يتخلى عنه فى ذلك اليوم، كإنسان حازم وفنان رقيق يسير فى محراب الفن بخطوات واثقة متحديا حاجز الزمان والمكان، حيث كان مشروع يوم القيامة بالقلم الرصاص هو نقطة انطلاقته الحقيقية، وللأسف تمت سرقة جزء كبير من هذا العمل عندما تم عرضه فى بهو مبنى قسم الحفر منذ سنوات طويلة مضت.
والفنان نوار له إنجازات عظيمة عندما كان رئيس قطاع الفنون التشكيلية، وأقام العديد من الفعاليات الفنية فى عدة مجالات مثل بينالى القاهرة الدولى، ترينالى الحفر الدولى، بينالى الخزف الدولى، صالون التصوير الضوئى، صالون مصر، صالون القطع الفنية الصغيرة، معرض الفن الفطرى، وغيرها من الفعاليات التى توقفت بعد انتهاء مدة خدمته.
بالإضافة إلى تأسيسه كلية الفنون الجميلة بالمنيا مع زوجته الدكتورة وفاء وكذلك تأسيسه لمتحف بنفس الكلية، والأهم من ذلك كان اهتمامه بالفنانين الشباب، وقد كتب عن تلاميذه من الفنانين فى عمود بجريدة أخبار اليوم وكان يطلق على كل فنان «نجم»، بالإضافة لعمود نهر الفن الذى تطرق فيه لمواضيع فنية وإنسانية تذيب الفوارق بين الفنان والمتلقى وكذلك كتابه عين الصقر الذى يؤرخ فيه ذكرياته العسكرية كأحد قناصى حرب أكتوبر عام 1973.
وأحمد نوار فنان شامل فهو بجانب أنه رسام وحفار فهو أيضا مصور ونحات ومارس الفنون المفاهيمية، فهو لم يدع أى مجال لم تتطرق إليه أنامله القوية، التى قبضت على السلاح فى حالة الحرب وبنفس الأنامل رسم حمامة السلام، لأن من ذاق مرارة الحرب وويلاتها يعرف معنى السلام والاستقرار، وكثيرة هى أعماله التى تنبثق من حياته العسكرية، التى دائما ما يضعها فى المقام الأول، فنشاهد مفردات مثل الطائرة والصاروخ والرصاصة والدبابة والخوذة، والمدفع والحمامة، وفى أعمال أخرى نشاهد الوجه الإنسانى بصيغ مختلفة على خشب الحبيبى المضغوط، ووجوه محاربة تعكس مفهوم الإرادة والتحدى عند الإنسان المصرى.
وفى بعض الأعمال يستلهم وجوه الفيوم ليحولها إلى بناء هندسى فى طبقات مجسمة تتوزع على عدة مستويات، يحدث فى بعض منها قطع للوجه بحيث لا يبدو منه إلا العين التى تنظر للعالم وسط هذا التراكم اللامحدود، وهو بذلك يكسب الشكل مفهوم حداثى جديد يعجز عن إخفاء تلك التعابير الصامتة فى الوجوه العائدة من العالم الآخر، وفى أعمال أخرى يسيطر عليها الحس الهندسى وعناصرالتصميم كحالة من التفكير البصرى فى العالم اللا مرئى والميتافيزيقى الذى يخضع لخيال الفنان وفلسفته، أما الكتلة فى أعماله فنشاهدها فى الكتلة فى حالة انقسام خارج الجاذبية فكأنه لا يخضع لقانونها، بل إن رموزه ومفرداته معلقة سابحة فى فضاء مطلق وهى تختلف عن أعماله السابقة التى تنطوى على كثير من العناصر البصرية كالزوايا الحادة والتقاطعات الرأسية والأفقية والمربعات والمكعبات.
وعندما نتأمل بعض لوحاته المعروضة نشاهد حالة مميزة بقدر كبير من الدقة التى اكتسبها من دراساته الأكاديمية فى قسم الحفر، وكان الأبيض والأسود هما المفضلين لديه رغم صعوبة استخدام الأسود فوق السطح الأبيض، وعندما نتناول اللون الأسود وهو من المجموعة غير اللونية، فهو لا لون، يعكس حالة من الصمت العميق.. هو صمت الموت الذى يعد من صفاته، وعندما يأتى بجوار الأبيض الذى أنكر التأثيريين وجوده فى الطبيعة، ولولاه لما أصبح للأسود وجود على الإطلاق، لذلك فالرسم بالأسود فوق السطح الأبيض أو العكس من أصعب المهارات التى يحتل بها الفنان مكانة تبرز تمكنه خاصة عند رسم الاسكتش.
ورغم أن الفرشاة أكثر تحررا وأكثر قوة وسرعة من سن القلم الرصاص أو الحبر الرابيدو الأسود، إلا أننا عندما نتأمل لوحاته نشاهد فنان استطاع بمهارة أن يسيطر على هذا السن الرفيع ويطوعه لفكره بنفس سرعة الفرشاة، وهذا ما يبدو لنا وإن دل فإنما يدل على حالة الاتزان النفسى الهائلة التى يزاول بها أعماله الفنية، حين نرى خطوطه وكأنها تجرى من بين يديه وهو يتحرك بسن القلم كقناص، فهو لم ينس عمليا اقتناصه للأعداء فى حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر، فكل خطوطه ثابتة ومتزنة، لا يمحو ولا يصحح كما المصور الذى يتعامل بفرشاته وألوانه دون اكتراث من غلطة فى الشكل أو اللون فباستطاعته محوها فورا بلون آخر، وتتميز تكويناته بالفخامة والتنوع، فنحن أمام الاسكتش لوجوه وأشكال إنسانية من واقع مشاهداته فى أسفاره لينقل لنا حس المصور المحترف، وفى لوحات الأماكن المقدسة يبرع فى استخدام اللون الأسود بدرجاته فى سفوح الجبال الممتدة، ومجسم الكعبة الأسود أيضا بعبقرية، حيث يجسد حالة الطواف حولها، ومدى جلال المكان وقدسيته والذى يتخلل وجداننا باشتياق ولهفه، وعندما نتبع تجربته وغزارة إنتاجه نجدها لا تنفصل عن شخصيته وتسير بالتوازى مع عطائه الذى يستحق التكريم والتقدير فأعماله فى حد ذاتها موسوعة فنية.
** نشر في العدد 1181 من جريدة القاهرة بتاريخ 7 مارس 2023