أخبار عاجلة

الدكتور خالد البغدادى يكتب: أحمد نوّار.. بالأبيض والأسود 60 عامًا من الشغف

 

جاء معرض الفنان الدكتور أحمد نوار الذى يقدم تجربته التشكيلية بالأبيض والأسود على مدى ستة عقود متواصلة فى مجال الرسم أو الجرافيك أو التصوير كتجربة ثرية فنيا وإنسانيا، وحالة من الشغف الفنى المتواصل شملت اسكتشات مبكرة من مرحلة الدراسة ومختارات من أهم المراحل الفنية مثل مجموعة (الأراضى المقدسة) ومجموعة (رسومات الصين) وغيرها.

 المعرض مقام فى مجمع الفنون بالزمالك وافتتحه الدكتور وليد قانوش رئيس قطاع الفنون التشكيلية والدكتور محمد شاكر وزير الكهربا،  وحظى بحضور واهتمام كبير من النقاد والفنانين والجمهور. 

عطاء بلا حدود

الفنان أحمد نوار هو بالتأكيد حالة خاصة فى الحركة التشكيلية المصرية المعاصرة بسبب عطائه الفنى والإنسانى الدائم والمستمر، فحيثما توجد هموم الوطن ستجده دائما فى المكان الصحيح، عندما كان الوطن فى حالة حرب ذهب نوار وحارب وقام بدوره على أكمل وجه، وعندما كان الوطن فى مرحلة إعادة البناء بعد انتهاء الحرب كان نوار فى المكان الصحيح، حيث أسهم بدور فاعل فى مرحلة البناء فى كل مكان.

واذا كانت الحركة التشكيلية المصرية تمتد الى أكثر من مائة عام فالفنان أحمد نوار يحمل على كتفيه تجربة ابداعية تمتد الى أكثر من 60 عاما من هذه المائة، فهو أحد المسئولين المصريين عن المشروع التشكيلى المصري لفترات طويلة منذ أن تخرج فى كلية الفنون الجميلة 1967 وحتى الآن، حيث حصل على العديد من الجوائز المحلية والدولية واشترك فى العديد من المعارض الخاصة والعامة، وشغل العديد من المناصب منها رئيس قطاع الفنون التشكيلية، ورئيس الهيئة القومية لقصور الثقافة وعميد ومؤسس كلية الفنون الجميلة بجامعة المنيا ورئيس لجنة الفنون التشكيلية بالمجلس الأعلى للثقافة. 

وتجد بصماته على كل الأماكن الفنية والإبداعية والثقافية بطول مصر وعرضها، فإذا دخلت أى متحف ستجد أنه هو من أسسه أو رممه، وإذا دخلت قصر ثقافه فهو من أعاد تأهيله وصيانته، وإذا دخلت أى قاعة عرض للفنون ستجد أثرا له بشكل أو بآخر، فضلا عن تلاميذه المنتشرين فى كل مكان ورغم أنه تجاوز الخمسة والسبعين عاما إلا أنه ما زال يمارس الإبداع الفنى والإنسانى.

ومن أهم إسهاماته الأخيرة فى تحريك المياه الراكدة هو إطلاقه لفكرة (مسابقة نوار للرسم) لطلاب الجامعات والتى عقد منها العديد من الدورات.

استدعاء يوم الحساب

ومن أهم متغيرات هذا المعرض هو وجود نقلة نوعية فى أعماله، حيث يستخدم لأول مرة تقريبًا تقنية الكولاج، وقد استخدم هذه التقنية بحرفية عالية حيث استطاع أن يدمج الصور الفوتوغرافية فى تفاصيل بناء تكوين اللوحة بشكل عضوى لدرجة أن عين المشاهد غير المدربة لا تستطيع أن تلاحظ ذلك، خصوصا فى مجموعة الأعمال التى تعبر عن الفظائع الدموية التى ارتكبتها الجماعات الإرهابية المتطرفة.

ومن المغامرات الفنية التى فاجأنا بها دكتور نوار فى هذا المعرض هو وجود معالجة فنية جديدة لفكرة لوحة «يوم الحساب» التى تعد باكورة اعماله الفنية والتى رسمها عام 1967 كمشروع تخرج، وبشرت بميلاد فنان جديد لدية رؤية وموقف من الفن والحياة، مما يذكرنا برائعة مايكل أنجلو الفنية التى تغطى سقف كنيسة «السيستينا» بروما، ولعل الإقدام على مثل هذه المغامرة الصعبة من شاب يقف على أعتاب المستقبل تكشف لنا عن معدن هذا الشاب وطموحاته العريضة.

حيث فاجأ نوار جمهور المعرض بوجود لوحة أخرى تحمل اسم «استدعاء من يوم الحساب» وهو ما يسمى فى الأدبيات «التناص الفنى» ويعد نوعا من المغامرة الفنية أن يقوم الفنان نفسه بتقديم معالجة تشكيلية جديدة لأهم أعماله الفنية بتقنية وأسلوب مختلف.

فاللوحة الأولى رسمت بالقلم الرصاص ونجد بها قوة التعبير والحركة وتأكيد تفاصيل البناء التشريحى للجسد، بينما فى اللوحة الجديدة التى رسمت حديثا 2021 بالقلم الفلوماستر فهى على مساحة أصغر، ونجد بها نوعا من الاختزال والتجريد فى معالجة الشخوص.

مجموعة الحرب والسلام

وتوجد مرحلة مهمة جدا فى تجربته الفنية لم تحظ بالاهتمام الكافى، وهى مجموعة «الحرب والسلام» التى تمثل مجموعة أعمال فنية مجسمة صنعها بعد عودته من جبهة الحرب، فبعد تخرجه منتصرا من معركة الدراسة، وجد فى انتظاره معركة تحرير الأرض المسلوبة، فارتدى الزى العسكرى وذهب الى الجبهة، وفى هذه المعركة أيضا يثبت أنه مقاتل، فيتقدم الصفوف ويثأر لزملائه الذين استشهدوا فى ساحة الشرف، فيقتل من أعدائه خمسة عشر ضابطا وجنديا ويحصل على وسام (بطل الجيش) عام 1969.

ثم يعود إلى الوطن الأم ليبدأ معركة أخرى، ربما أكثر شراسة هى معركة الإبداع، هنا ينبثق فى أعماقه خاطر مفاجئ، لقد عثر الفنان المقاتل على أكثر الوسائط صلاحية للتعبير، فليس هناك خير من أدوات المعركة لتعبر عن الأهوال والبطولات التى صادفها بصدق وأمانة، فبعد جمع كم هائل من دانات المدافع وشظايا القنابل وفوارغ القذائف، ويعود بهم إلى مرسمه وكله أمل أن يستطيع استنطاق هذه الجوامد لكى تحكى كل ذرة فيها عما عايشته فى ملحمة الاستنزاف.

وتآلفت النفايات الحديدية وتشكلت الشظايا لتقوم بدور تعبيرى يختلف عن دورها القتالى تماما، وكانت هذه المخلفات المعدنية تتلاحم فى نسق متناغم لتصبح عند تمامها شواهد حية وتماثيل نابضة، تحكى بلغة الصمت عن أروع مرحلة فى تاريخ مصر وهى تقف شامخة فى جلال وقور وكأنها أقواس نصر فوق قبر جندى مجهول.

 

** نشر في العدد 1181 من جريدة القاهرة بتاريخ 7 مارس 2023