أخبار عاجلة

في ذكرى استشهادها.. ننشر سطور الكاتب خيري حسن عن الأديبة نفيسة قنديل  

تحل اليوم الذكرى الرابعة لاستشهاد الناقدة والأديبة نفيسة قنديل، وقد صدر مؤخرا عن دار غراب للنشر والتوزيع كتاب الصحفي والروائي والقاص خيري حسن “لاشيء هنا”، ورد به فصل عنها بعنوان “بأي ذنب قتلت”.
في الكتاب يصور المؤلف مشاهد حاسمة ومؤثرة في حياة شخصيات معروفة، ربما كانت هي النهايات، وبينها مشهد رحيل الأديبة والناقدة الشهيدة نفيسة قنديل، زوجة الشاعر الكبير الراحل محمد عفيفي مطر، والتي انتهت حياتها بشكل مأساوي على يد لص قاتل اقتحم منزلها بقرية رملة الأنجب بمركز أشمون في محافظة المنوفية ليلة 19 مارس 2019 .
نفيسة قنديل؛ كانت لها كتابات ورقية مطولة بعدد من الصحف والمجلات العربية، اهتمت بتفنيد آراء النسويات حول تحقيق المساواة بين المرأة والرجل في كل شيء، كما عملت مترجمة في فترة من حياتها خلال تواجدها بالخليج.

وجاء في سطور كتاب خيري حسن عنها:
“نفيسة قنديل.. بأي ذنبٍ قُتِلَتْ؟”

هَذَا اللَّيلُ يَبدَأُ
فابْتَدِئْ مَوتًا لحُلمِكَ
وابْتَدِعْ حُلمًا لمَوتِكَ»
محمد عفيفي مطر

(الإسكندرية ـ 2020)
داخل غرفة ضيقة، خافتة الضوء، ليس فيها سوى رائحة الموت، وأصوات أقدام، وبقايا كلام، ونهايات أحلام، ونتيجة على الحائط معلقة بلا أيام، وشباك صغير لا يتسرب منه سوى الندم، والدموع، والأحزان. يقف الشاب عادل يونس وشهرته «ولاء أبو حديدة» مرتديًا بدلته الحمراء في انتظار تنفيذ حكم الإعدام داخل سجن برج العرب الذي يبعد 230كم شمال القاهرة. الآن يتقدم ببطء نحو حبل المشنقة، بعد الحكم النهائي الذي صدر ضده من الدائرة الثالثة جنايات ـ مدينة شبين الكوم. والذي جاء فيه: حكمت المحكمة برئاسة المستشار عبدالحليم حسين المسيرى بالإعدام شنقًا حتى الموت على المدعو «السيد عادل السيد يونس ـ 31 عامًا» قاتل السيدة «نفيسة محمد قنديل ـ 72 عامًا» زوجة الشاعر الراحل محمد عفيفي مطر بعد تأييد فضيلة المفتى للقرار في القضية ـ التي حملت رقم 10589 جنايات ـ التي وقعت أحداثها الدامية فجر يوم 19 ـ كانون ـ 2019.
***
(غرفة الإعدام ـ بعد 10 دقائق)
الآن يقف ممثل النائب العام ومأمور السجن ومعهما شيخ أزهرى. بعد دقائق قال الشيخ: «انطق بالشهادتين يا ابني»؟
ـ عادل.. صامت، شاحب، جسده يرتعش، وشفتاه ترتجفان دون النطق بهما أو الرد عليه! بعد لحظات من الصمت الحزين جاء صوت آخر من قريب قائلًا: «عايز حاجة يا عادل قبل ما ننفذ الحكم»؟ هنا انتفض جسده وارتفع صوته: «أيوه.. عايز أزور قبر الشاعر محمد عفيفي مطر»!. وكرر طلبه المباغت عدة مرات وسط ضباب الحجرة، وصمت الحضور،
واهتزاز حبل المشنقة المعلق بالمكان. بعد مداولات، واتصالات، واستشارات، واستراجاع لقانون الإجراءات الجنائية والمواد «471، 472، 473، 474، 475» انتهى الأمر واستقر ـ في واقعة قد تكون غير مسبوقة ـ إلى تنفيذ تكليفات الجهات العليا التي وافقت على تأجيل تنفيذ الحكم لتحقيق الطلب الأخير للمتهم قبل موته شنقا!
***
(المنوفية ـ 2020)
عدة سيارات مدرعة ـ بينها سيارة إسعاف ـ تسير بسرعة شديدة وسط حراسة أمنية مشددة، حتى اخترقت طرق وشوارع ومدن قرى الدلتا إلى أن وصلت ـ حاملة المتهم ـ إلى قرية «رملة الأنجب ـ مدينة أشمون» التي عاش ودفن بها الشاعر الكبير محمد عفيفي مطر يوم 28 ـ حزيران 2010. وسط المقابر وأمام قبره وقف المتهم بصوته المبحوح يتكلم هامسًا:
«كانت الست «نفيسة» فضلها ـ بعد الله ـ علينا كبير، لأنها كانت تساعد والدتي في المعيشة، وأنا ندمان على كل اللى حصل مني، والشيطان لعب دورًا كبيرًا وقتها، وأنا مستعد للعقاب لأنني قتلت سيدة خيرها علينا» قال ذلك ثم سكت! في نفس الوقت خيم الصمت على القبور التي لم يعد يُسمع فيها سوى صفارات سيارات الشرطة، وأصوات السلاح، وهمهمات عناصر قوات التأمين التي انتشرت في كافة المداخل والمخارج. حاجز الصمت اخترقه صوت الشاعر محمد عفيفي مطر قائلًا: «يا هذا.. تقول إنها كانت تساعد أمك وتعطيكم من بيتنا الذي بنيناه بالحب والعشرة الطيبة، وأنت اقتحمته بغبائك، وطمعك، وجهلك! وتقول إنها كانت تعطيكم من أرضنا التي زرعناها بعرقنا، وجهدنا. وأنت ذهبت لتسرقها بجشعك، وحقدك.. وشيطانك الذي دفعك لتقتل «أم لؤي» تلك المرأة، المثقفة، الناقدة، الكاتبة، الصبورة، الطيبة، التي أحببتها في الحياة وكنت لها ـ منذ زواجنا ـ الأب والأخ والابن.. لقد بهرتني بنظرتها، ووداعتها، وطيبة وجهها، ونقاء قلبها، فمنذ رأيتها في بيت ملاصق لقريب لى قبل 50 سنة، وقعت في غرامها من النظرة الأولى. وتقدمت إلى خطبتها عندما كانت طالبة تسكن في المدينة الجامعية. أنا ما زلت أذكر هذه الأيام. وأذكر أول رسالة حب كتبتها لها وقلت فيها «من بين جميع البشر أظمأ إليك ظمأ ملتهبًا قاسيًا، وأرجو بين يديك الحياة والتفتح»، الحياة التي قتلتها أنت بيديك من أجل بضعة جنيهات لو كنت طلبتها منها ما كانت قد تأخرت عليك أبدًا، وكانت ستعطيك مما أعطاه الله! فهي كانت تفعل ذلك مع كل فقراء القرية.
***

(الشرفة ـ ليلة الجريمة)
«الشاعر» ما زال يتحدث عن أيام الطفولة والصبا، والحب والزواج، والشعر والتعليم، والأرض والقمر، والقرية والسفر، ويتذكر أمه جليلة الجليلات «سيدة أحمد عمار» «فيض البركة في الزمن الصعب» كما يصفها. ويسترجع نصائح أبيه وفقر أسرته، وكرامة عائلته، وأخلاق قريته. ونبل رجالها، وجمال نسائها في ذلك الزمن الغابر.أما «القاتل» فلا يذكر ـ فقط ـ سوى القتل، والموت، وحطام الزمن الحاضر. يقول عادل: «جلست عدة أيام أتابع منزلها لمدة قاربت الأسبوع، وذلك عن طريق الذهاب إلى جيم بجوار المنزل، وفي يوم تنفيذ الجريمة ذهبت ليلًا إلى المسكن وكسرت باب البلكونة» استعدادًا لتنفيذ ذلك المخطط الإجرامي البشع الذي تمكن من نفسي وقتها!

***
(المقابر ـ بعد 30 دقيقة)
ـ يا هذا.. هل تعرف من أنا؟ أظنك لا تعرف؟ ولن تعرف؟ هكذا يسأل محمد عفيفي مطر ضيفه الثقيل في دهشة ثم يرد على نفسه قائلًا: «أنا ابن القرية المصرية، والقرية عندي ليست بيئة طبيعة، بل بيئة إنسانية، فيها العمل، وأنماط الإبداع والفنون الشعبية. هذه القرية الجميلة كيف خرج منها أمثالك من أعداء الحياة؟ قد تقول ـ لتبرر لنفسك خستك وإجرامك ـ إنك فقير ومُعدم ومظلوم في الحياة، ولا تملك طعام يومك، وهذا ـ وأنا لا أظنك كذلك ـ ليس مبررًا للإجرام، والوضاعة، والانهيار الأخلاقي، والانحطاط الإنساني الذي كنت عليه لحظة تخطيطك وارتكابك للجريمة! يا هذا.. أنا كنت أكثر منك فقرًا، وكان من حسن حظي أو من سوئه ـ لست أدري- أنني نشأت في بيئة ريفية أفقر من التي نشأت أنت فيها، كان في القرية العدل والظلم، والحلال والحرام، والقوة والضعف، كان فيها كل ذلك وما هو أسوأ من ذلك لكن كان فيها أخلاق. وأنا أخلاقي وقيمي ومثلي العليا جعلتني أحاول أن يكون طعامي من عرقي، وأن تكون أيامي مجدية لي ولغيري. وكما قلت ذات يوم ـ وأقول دائمًا ـ كان أملي وحلمي أن أزود أرض مصر أرضًا خضراء جديدة ولو مساحة شبر واحد، وأترك في اللغة ولو جملة واحدة! وأنا لم أنشأ في المدن ولم أعمل فيها. والمدن التي اضطرتني الظروف للعمل بها ـ مثل بغداد ـ اعتبرها قرية صغيرة. والقاهرة اعتبرها مدينة مختلفة مفزعة ولا أستطيع العيش فيها خصوصًا بعد سيادة البلطجة والزحام بها، ولذلك قررت أن أستقر في قريتي، في أرضي، في قلب الطمي!يا هذا.. مصر بدون طمي لا تكون مصر! ورجوعي للأرض ليس عودة، لكنه استمرار بعد قطيعة سببها البعد عن الغرس، والطين، والزرع. أنا عشت عمري كله «75 عامًا» أحب الغيطان، وصوت أبو قردان، وندى الصباح، ورائحة الفلاح، ودخان الأفران، والترع والجسور، والجلابية الكستور، والفلاحة، وتربية الحيوان وخلايا النحل؛ لأن ذلك كله كان يوصلني ويربطني بالحياة. أما أنت ـ ومن مثلك ـ فلا تعرفون الفلاحة، ولا الكرامة، ولا الأخلاق، ولا الطمي، ولا القرية، ولا النيل، ولا الطين، ولا العرق، ولا الناس الطيبين، لذلك عشش في قلوبكم وعقولكم الإجرام، والدم، والقتل، بعدما فسدت الذمم، وانهارت القيم، وتحولنا من عصور الأمل والعمل والإنتاج إلى عصور اليأس والبؤس والاستهلاك! الأمر الذي جعلك تتخلى عن كل المشاعر الإنسانية النبيلة وتصعد إلى شرفة بيتي في جنح الظلام لتسرق وتقتل امرأة مسنة تعيش بمفردها مع كتبي وأشعاري وصوري وذكرياتنا الجميلة!

***

(الصالة ـ ليلة الجريمة)
ما زال الصمت يخيم على المكان داخل المقابر، باستثناء خطوات قوات الحرس التي لا تتوقف، وما زال المتهم يواصل حديثه عن تلك الجريمة المؤسفة في تلك الليلة الدامية قائلًا: «بعدما صعدت للشرفة كسرت الباب بـ«مفك» و«حديدة» فمهنتى أصلًا نجار مسلح، وهذه من أدوات عملي الدائم. ثم دخلت للصالة في صمت وهدوء تام إلى أن فوجئت باستيقاظها من النوم لصلاة الفجر فقيدت يديها، وقدميها، ووضعت إيشارب على عينيها. هنا قالت: «على فكرة أنا عرفتك» في هذه اللحظة قررت قتلها بالحديدة التي كانت في يدى، فضربتها عدة ضربات على رأسها حتى سقطت غارقة في الدم. وبعدما تأكدت إنها ماتت قمت بسرقة 4 آلاف جنيه وهربت ولم أتخيل يومًا أن تنكشف جريمتي».
***

«المقابر ـ بعد 50 دقيقة»
الأبناء.. أنا لا أعرف ما حال الأبناء «لؤي وناهد ورحمة» بعد سماعهم نبأ جريمتك.. وفعلتك الخسيسة؟ هكذا يسأل الشاعر ثم بعد فترة صمت طويلة قبل أن يقول: «ولدتني أمي على ضفاف النهر، وعشت طفولتي بالقرية ثم تخرجت من كلية الآداب ـ قسم الفلسفة – جامعة عين شمس. بعد ذلك عملت مدرسًا في محافظة كفر الشيخ التي قضيت فيها سنوات طويلة، أنشأت خلالها مجلة «سنابل» الأدبية التي جعلتها منشورًا ثوريًا طالبت فيه بالخروج من حالة اللاحرب واللاسلم عام 1968 ثم رفضت الخط السياسي للرئيس السادات مما دفعني للهروب إلى السودان ومنها سافرت إلى العراق لقناعتي بالدور الذي يجب أن يخوضه المثقف لدعم التوجه العروبي القومي وهذه القناعة هى التي دفعتني لمعارضة ضرب العراق وعرضني هذا لمحنة الاعتقال عام 1991. وفي قلب هذا المشوار كتبت وأصدرت أعمالى الشعرية والنثرية وبعض الترجمات ومنها «من مجمرة البدايات» و«أوائل زيارات الدهشة ـ سيرة ذاتية» «الجوع والقمر» و«ويتحدث الطمي» و«باعية الفرح» و«احتفالية المومياء المتوحشة» و«فاصلة إيقاعات النمل» و«أنت واحدها وهى أعضاؤك انتثرت» و«النهر يلبس الأقنعة» و«صيد اليمام» و«شهادة البكاء في زمن الضحك» و«كتاب الأرض والدم» و«رسوم على قشرة الليل» و«الجوع والقمر» و«من دفتر الصمت» و«ملامح من الوجه الأمبيذوقليسى» وغيرها من الأعمال. كل هذه الكتابات قدمتها وكل هذه المواقف اتخذتها، وكل هذا العمر عشته من أجل القرية والوطن والإنسان. ومن أجل الحق، والخير، والعدل.. وقدمت ذلك وفعلته دون أن «أغلق بابًا في وجه أحد، ودون أن أختطف شيئًا من يد أحد، ولم أكن عونًا على كذب أو ظلم أو فساد»! والآن قل لي يا هذا.. لماذا جئت إلى هنا الآن؟
رد: أطلب السماح!
***

(المقابر ـ بعد 50 دقيقة)
« عد من حيث جئت.. وواجه مصيرك المحتوم.. فالقصاص عدل.. والحق عدل.. والعدل أن تشرب من كأس الموت، وطلبك هذا ليس عندى.. أنه عند الروح التي قتلتها بدم بارد. ويوم القيامة سوف تلتقى الخصوم وتلتقيك ـ أي تلك الروح ـ وتسألك: يا هذا.. بأي ذنب قتلت نفيسة؟.

الآن يغادر المتهم المقابر، وسط الحراسة الأمنية المشددة. أقدامه تحمله بصعوبة، ودموعه تتساقط بغزارة، وملامحه تصرخ بالندم، وجسده يعتصر من الألم. لقد حانت لحظة العودة استعدادًا لتنفيذ الحكم والمصير المحتوم. ورغم أن أصوات السيارات، والمدرعات الأمنية، والأفراد تتداخل مع أصوات الغربان والبوم. إلا أن ذلك كله لم يمنع سماع صوتًا هتف في الفضاء سمعه أهل القرى والقبور معًا يقول: «إنُما الأُمَمُ الأخلاقُ ما بقَيَتْ/ فإن هُمُ ذَهَبَتْ أَخلاقُهُمْ ذَهَبوُا»! هذا الصوت ظل يتكرر عدة مرات في الوقت الذي كان فيه الغروب قد بدأ يزحف على المقابر وأهلها والقرية وسكانها، حتى اختفي الركب الأمني وراء الظلام.